
من تراث المبدع : يوسف زيدان
لم يكن الصبى المغولى (تيموجين) يتخيَّل أن اسمه سوف يظل محفوراً فى تاريخ الإنسانية من بعد وفاته بمئات السنين، ولم يكن يعرف أن اسمه هذا (تيموجين) سوف يختفى عن الأذهان تماماً، لصالح اللقب الذى سيُعرف به فى النصف الثانى من حياته ( جنكيز خان ) .
خرج الأب ، يسوكاى، لحرب قبيلةٍ تترية (مغولية) أخرى ، وكانت زوجته يولون حاملاً.. ولما عاد الأب وجد امرأته قد وضعت طفلاً ذكراً ، وليس الذكر كالأنثى عند المغول. فالذكرُ كان عند القبائل المغولية، أهم وأعلى وأدعى إلى فرح الأب وسعادته، لأنها كانت قبائل عنفٍ وقتال ، والعنف حين يهيمن على ثقافةٍ إنسانية، فلابد لهذه الثقافة من أن تحتفى بالذكورة وتضطرب تجاه الأنوثة.. المهم ، فرح الأب بالوليد، وسماه (تيموجين) لغايةٍ فى نفسه، كانت الأمُّ تدركها، كما سيأتى بيانه .
وعندما صار تيموجين فى التاسعة من عمره، ذهب مع أبيه فى رحلة لزيارة بعض أقاربه المنتشرين فى سهول منغوليا الواقعة بقلب آسيا، شمال الصين ، وفى طريقهم مروا على قبيلةٍ مغوليةٍ من جماعة (القنقرات) فأُعجب زعيم هذه القبيلة بالصبى تيموجين، واتفق مع أبيه على المصاهرة، بتزويج الصبى لابنته (بورته) التى كانت فى حدود العاشرة من عمرها. ومع أن الفتاة كانت أكبر سناً بقليل من تيموجين، إلا أنه أحبَّها بشدة أثناء تلك الزيارة ، وراح يحلم باليوم الذى سيتزوجها فيه، بعد عامٍ أو عامين .
وكانت الأيامُ تخبِّئ للصبى فواجعَ كثيرة، فبعدما ارتحلا (تيموجين وأبوه يسوكاى) من مضارب قبيلة الصبية المحبوبة، على وعدٍ بإتمام الزواج بعد حين.. مات الأبُ فجأة! والمؤرِّخون يقولون إن أعداءه من التتار دَسُّوا له السُّمَّ فى الدسم، فمات الأبُ وابنه صبىٌّ فى التاسعة (وقيل : بل كان فى الثالثة عشرة) وأخوه الأكبر فى حدود الحادية عشرة، والأم المسكينة فى حال بؤس شديد ؛ لأنها تعلم قسوة الأحوال عند موت الآباء فى هذه الثقافات الذكورية ، والجماعات القتالية العنيفة .
وتحقَّقت هواجسُ الأم، حين بدأت الغارات تُشَنُّ عليهم من القبائل الأخرى، فرحلت مع بقية زوجات زوجها الميت وأطفاله منهن ، وتقوقعوا جميعاً عند ناحية بعيدة على ضفاف نهر أونون .. وفى يوم حزين ، تعارك الأخوة الأشقاء وغير الأشقاء ، فانقضَّ تيموجين وأخوه قسار، على أخيهما غير الشقيق (بكتار) فنهشاه نهشاً حتى مات. وانفجرت الأمُّ فى ولديها غاضبةً، وفى غمرة غضبها أخبرت ابنها تيموجين بالسبب الذى من أجله سُمى بهذا الاسم، حين قالت : أيها القتلة ، أنتم كالذئاب التى تنقض على فريستها فى غمرة العاصفة، وكالنمور والأسود ، وأنت ياتيموجين حينما وُلدت كنت تقبض على قطعة دم متجمدة، ولذلك اختار لك أبوك اسم الزعيم تيموجين الذى سفك أبوك دمه فى اليوم الذى ولدتُك فيه .. كان الأب يتفاءل بذلك ويظنه سيطيل عمر الوليد، وكانت الأم قلقة من هذا الاسم الدموى المرتبط بواقعة قتل! فلما قتل تيموجين أخاه غير الشقيق، عرفت الأم أن لابنها نصيباً من دموية اسمه .
ويحكى لنا د. السيد العرينى فى كتابه (المغول) وكون إيجلدن فى روايته (ذئب السهول) أن الأم هربت بأبنائها إلى الجبل الحصين (كنتاى) الذى كانت القبائل المغولية تقدِّسه، فشبَّ تيموجين معتقداً بأنه محمىٌّ من الجبل المقدس الذى لجأوا إليه، حين كان فى العاشرة من عمره.. إلا أن قداسة هذا الجبل لم تمنع القبائل من الإغارة على هذه الجماعة الضعيفة، وسلب ما كانوا يملكونه من متاعٍ فقير . غير أن الفتى اليافع تيموجين، كان يُظهر لأعدائه شجاعةً فائقة، مما جعله حين قارب البلوغ معروفاً عند أهل النواحى القريبة بالقوة والبأس الشديد، فمالت إليه قلوب بعض المغول وصار مؤهلاً عندهم للزعامة، على الرغم من صغر سنه. أما هو فكان يفكر فى الفتاة التى خُطبت له قبل سنوات، ولم تحن الفرصة لإتمام الأمر بسبب موت أبيه المفاجئ .
ولما استقرت أمور تيموجين، وكفَّ عنه - إلى حين - الطامعون والموتورون من الجماعات المغولية المحيطة، أسرع الفتى إلى مضارب محبوبته (بورته) فأتم الزواج بها، وهنأ بذلك حيناً من الدهر .. وبعد عدة بطولات أظهرها فى قتال القبائل، شاعت نبوءةٌ تقول إن زعامة المغول سوف تؤول إلى تيموجين، وكان هو أول المؤمنين بهذه النبوءة، فلم يدَّخر جهداً لتحقيقها .
انتصر تيموجين على عديد من القبائل ، وصار زمامها بيده. وأقام صلات طيبة مع زعماء المغول الآخرين، فانتخبوه ملكاً على سائر القبائل، وجعلوا لقبه (جنكيزخان) أى إمبراطور العالم .. غير أن المؤرخ الفارسى الشهير ، رشيد الدين، يشرح هذا اللقب وفقاً لألفاظه المشتقة من الكلمات الصينية المغولية القديمة ، مؤكِّداً أن معناه الحرفى، هو الخان (الملك) القوى. لكن الظاهر من الأمور ، أن جنكيز خان فهم من لقبه الجديد، المعنى المشهور (إمبراطور العالم) فسعى لامتلاك العالم فى قبضته الحديدية. وامتلاك العالم ، بالطبع، هدفٌ بعيد المنال لابد لتحقيقه من إراقة دماءٍ غزيرة، وارتكاب فظائع تليق بالشخص الطامح إلى امتلاك العالم .. وهو ما جرى بالفعل ، كما سيأتى بيانه .
استجمع جنكيز خان قواته، وهجم سنة 1188 ميلادية بجيش قوامه مائة وثلاثون ألف مقاتل ، على جموع (التايجوت) وهم من القبائل المغولية المناوئة له، فأنزل بهم هزيمةً ساحقة، وبالغ فى قتل الأسرى لإشاعة الرعب فى نفوس القبائل المغولية التى لا تدين له بالطاعة والولاء ، فانصاع بعضهم وتمسَّك البعض بالمناوءة وتجمعوا لحربه، فغلبوه فى الكرَّة الأولى بعدما تحالفوا تحت قيادة (جاموكا كورخانا) ولما انهزم أمامهم جنكيز خان، انفضَّ من حوله الأتباع والمستشارون، عدا جماعة من المخلصين له كان من بينهم ثلاثةٌ من المغول المسلمين: حسن ودانشمند الحاجب وجعفر خوجه .. وكان الأخير منهم نسيباً لجنكيز خان، إذ كان أخاً لزوجته .
ولابد لنا هنا من وقفة مهمة ، حول ارتباطنا نحن بهذه الأحداث الكبرى ، التى قد تبدو بعيدة عنا. إذ الصلة قائمة ، حتى من قبل خروج المغول (التتار) لتدمير بلاد المسلمين، إذ إن الصلات أسبق زمناً من هذا، ، وتعود إلى أيام النشأة الأولى لجنكيز خان (تيموجين) بل ومن قبل ذلك بزمنٍ طويل .
وعلى ذكْرِ الصلات (القديمة) بين ثقافتنا والثقافة المغولية، فلعله من المدهش أن نعرف أن هذه القبائل التترية (المغولية) والتركية، كان بعضها يؤمن بالمسيحية النسطورية (نسبة إلى الأسقف الشهير : نسطور) وبالمانوية، وكان بعضها يؤمن بالإسلام، أيضاً ، من قبل ذلك بقرونٍ من الزمان.وقد أشار لذلك الباحث الإيرانى الكبير (عباس إقبال) فى كتابه (تاريخ المغول) حين قال : كان شعب الإيغور المغولى يدين بالمسيحية والبوذية والمانوية، وكان أول قوم يعتنقون الإسلام من بين شعوب الترك فى شرق سمرقند، هم طائفة القرلق التى ساعدت الإيغور على فتح منغوليا الشمالية، وأنزلت بإمبراطور الصين هزيمة نكراء سنة 134 هجرية، واستولت على ولايات كثيرة ، وأقاموا لأنفسهم دولة، ودخلوا الإسلام فى القرن الثالث الهجرى.
وقد حرصتُ على نقل هذه الفقرة السابقة ، لبيان أن الأديان كانت متداخلة فى قلب آسيا فى ذاك الزمان، وأن العنف المروع الذى سنراه فى هذه المقالة، وما بعدها ، لم يكن يرتبط بالضرورة بواحد من هذه الأديان الكثيرة المتجاورة .. المهم الآن ، أن هناك شواهد تاريخية عديدة، تؤكد أن التجار المسلمين كانوا يختلطون بالقبائل المغولية ، بكثافة، من قبل جنكيز خان بعشرات السنين ، وكانت لهم تعاملات وعلاقات وثيقة بالجماعات المغولية التى نظرت نحوهم بتقدير خاص، لأن هؤلاء التجار المسلمين كانوا متحضِّرين، وكانوا أهل علم ودين ومشورة، وكانت لهم إلى جهة المغرب من أرض المغول، مملكة عامرة راسخة البنيان، هى المملكة الخوارزمية التى كانت تعدُّ واحدة من القوى الدولية الكبرى فى العالم آنذاك .. وكانت هناك قوة دولية كبرى ، أيضاً ، لا يستهان بها فى ذاك الزمان القديم، كما لا يُستهان بها فى زماننا الحالى ، هى (الصين) ذات السور العظيم الذى كان يحميها من هجمات قبائل المغول.
نعود إلى جنكيز خان الذى عاد إلى قلب الأحداث (الدولية) آنذاك حين استطاع القضاء على منافسيه، وظفر بعدوه اللدود (جاموكا) فقتله جنكيز خان قتلةً شنعاءَ ومَثَّل بجثته، وبقى أمامه من بعد ذلك، فرضُ سلطانه على قبائل النايمان المغولية، القوية، ذات الديانة المسيحية النسطورية. وهو الأمر الذى تحقَّق لجنكيز خان، حين انتصر عليهم فى حرب ضروس جرت بينهم سنة 1204 ميلادية، استطاع بعدها جنكيز خان أن يفتح (يغزو) الشطر الغربى من منغوليا، ويضم كافة القبائل المغولية تحت لوائه .
وهكذا صار جنكيز خان ملكاً عظيماً، وتزوَّج بابنة إمبراطور الصين، وأصدر قانوناً (شريعة) للمغول عُرف باسم (الياسا) أو (اليسق) تم تطبيقه بصرامة . ثم جمع تحت قيادته جيشاً هائلاً، استطاع به أن يدكَّ سور الصين العظيم ، فاستسلمت الصينُ له وأسلمته العاصمة (بكين) بعد حصارٍ طويل، سنة 1215 ميلادية .. وبهذا كاد جنكيز خان يصير بالفعل، حسبما يدل على ذلك لقبه: إمبراطور العالم .
واستقر الفاتحُ المغولىُّ العظيم، بعد عشرات السنين التى قضاها فى قتالٍ ونزالٍ ومؤامرات وأهوال ، فى عاصمة مُلكه الواسع (بكين) الذى يشمل منغوليا ومعظم أنحاء الصين.. كان السِّنُّ قد تقدَّم به، ولم يكن يعلم أن الزمان لا يزال يخبِّئ له ويلاتٍ جساماً، واصطداماتٍ مروِّعةً مع ذلك الرجل المسلم، صاحب اللقب الذى سنتوقَّف عنده الأسبوع القادم: خوارزمشاه .. أما الآن ، فلنختتم كلامنا عن جنكيز خان، بذكر السطور الأولى من ترجمته التى أوردها لنا الذهبى ، المؤرخ الإسلامى الشهير، فى كتابه (سير أعلام النبلاء) حيث قال:
جنكيز خان ، ملك التتار وسلطانهم الأول الذى خرَّب البلاد وأفنى العباد، واستولى على الممالك، وليس للتتار ذكرٌ قبله، وإنما كانت طوائف المغول بادية بأراضى الصين، فقدَّموه عليهم، فهزم (قبائل) الخطا، واستولى على ممالكهم ، ثم على تترستان وإقليم ما وراء النهر، ثم إقليم خراسان وبلاد الجبل، وغير ذلك، وأذعنت بطاعته جميع التتار وأطاعوه فى كل شيء ، ولم يتقيَّد بدين الإسلام ولا بغيره ، وقتلُ المسلم أهون عنده من قتل البرغوث، وله شجاعةٌ مفرطة وعقلٌ وافر ودهاءٌ ومكر .
0 التعليقات لموضوع "جنكيز خان .... الصبي المغولي تيموجين "
الابتسامات الابتسامات